سقوط الأندلس 💜بقلم 💜 زكرياء الحداد/ المغرب




تمهيد..


بدر مكتمل، لمة دافئة، وموقد نار مشتعل مع ابتسامة الحاضرين ينشران السرور في أرجاء المكان.


إنه بيت جدي بالقرية والعائلة الكبيرة كلها مجتمعة تتجاذب أطراف الحديث عن حوادث الحياة ومساراتها، لكن جدي قرر أن يغير مجريات الحوار، وكعادته دائما يحب أن يذكرنا بتاريخنا الإسلامي وأمجاده وحتى عثراته أحيانا بهدف التعلم منها.


فقال اليوم يا أحبائي سأحدثكم عن عروس غاية في الحسن والجمال، عن لؤلؤة من لآلئ الجنان، اليوم سأخبركم قصة عروس عذراء فاتنة، سلمها أهلها عنوة لشخص غريب، قالوا عنه زوجها دون إذن منها.


-أتدرون ما اسم العروس يا أعزائي..؟


-تساءلنا في لهفة وحيرة ما اسمها يا جدي؟


-قال اسمها الأندلس..



نحن الآن في القرن التاسع عشر، المكان جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية، هنا تقع آخر إمارة من إمارات الأندلس الإسلامية -إمارة غرناطة-..


لقد شنت ممالك الشرق المسيحية حروبا طاحنة على الأندلس لتنتشلها من أحضان المسلمين فيما أطلقت عليها حروب الاسترداد، وقد أطبقت سيطرتها على كل أجزاء الأندلس، إلا إمارة واحدة وهي إمارة غرناطة.


الجو جميل بهذه الإمارة الهادئة، تشرق الشمس مرسلة أشعتها الذهبية على أسوار قصر الحمراء لتزيده جمالا ورونقا لم ترى أعين البشر له مثيلا ولا شبيها، لكنه اليوم يبدو حزينا ولم يسرّ أبدا لطلوع صديقته المقربة وأشعتها الذهبية..


إنه حزين، ولا بد للحزن أن يكون رفيقه في هذه الأيام. قبل مدة قصيرة دار داخله اجتماع بين الملك أبو عبد الله وحاشيته وقواد جيشه، اجتماع ليس ككل الاجتماعات، داخله عقد اجتماع لإعلان سقوط دولة الأندلس.


يجتمع قواد الجيش ووزراء الملك داخل الصالة، الكل مشوش الذهن وعلامات التوتر والقلق بادية على وجوههم، يُفتح باب الصالة ويمر الملك يجر ثوبه المنسوج من قماش المخمل القرمزي، يجره وكأنه يجر ذيول الحسرة والذل وراءه.. وبسرعة يشرع في الحديث:


- تعلمون أننا الآن في آخر إرث لنا، آخر الأراضي الإسلامية التي فتحها أجدادنا من قبل، فحروب الاسترداد التي تقودها مماليك الشمال المسيحية قد اجتاحت الأندلس بأكملها، وما هي إلا أيام قليلة حتى يصبح فريدناند وقواده على أبواب المدينة، وإني أرى أن نسلم المدينة دون قتال.


ساد صوت رهيب بين الجموع، الأعين تحدق في بعضها مدهوشة مصعوقة، قرار التسليم والاستسلام مفاجئ، فالمسلمون لم يعتادوا أبدا على الخضوع والاستسلام لأعدائهم -على الاقل في ذلك الزمان-، وبينما الأسئلة تتضارب في العقول وسط هذا الهدوء الرهيب، يفجر صوت القائد عزيز قوقعة الهدوء ويقول في حزم وغضب وبعيون محمرة:


- إن كنت يا مولاي تريد أن تسلم المدينة فإني والله لا أسلمها إلا على جثتي، ولأن يقال عني شهيد وتدفن جثتي تحت أسوار هذه المدينة خير من أن يقال خائن وأعيش ما بقي من عمري أجر ذيول الذل والحسرة أينما رحلت.


طأطأ الملك رأسه دون أي كلمة وانسحب القائد عزيز من الاجتماع.


وعلى يمين الملك يوجد شخص لا يبدو مباليا لما يحدث داخل الصالة، وليس من عادته ألا يدلي دلوه في كل اجتماع وهو المعروف بتوجيهاته ونصائحه المتعددة للملك، إنه الوزير يوسف بن أبي القاسم.


يوجه الملك نظرة جانبية نحوه ويسأله في استغراب:


-ما قولك أيها الوزير، بما تشور أنت في هذه المسألة؟!


يحدق الوزير إلى الملك في عطف وتذلل قائلا:


- أرى يا مولاي أنه لا فائدة من القتال، فعتادنا قليل وجنودنا قلة، وإن أحكمت جيوش النصارى الحصار علينا لا شك أننا سنموت جوعا، إن المؤونة لن تكفي إلا شهرا أو شهرين،وأقول لنسلم المدينة لهم ونشترط عليهم أن يمنحونا جزء في هذه الأراضي نديرها تحت إمرتهم، ونعيش نحن وعيالنا وأموالنا خير لنا، فإنهم سيدخلون علينا سواء قاتلناهم أم لم نقاتلهم.


وبعد أخذ ورد بين الجموع استقر رأيهم على تسليم إمارة غرناطة دون قتال...!!


لهذا السبب يبدو قصر الحمراء حزينا، واليوم هو اليوم الذي سيحضر فيه الملك فرديناند وإيزابيلا لتسلم مفاتح المدينة، وكيف لا يحزن وهو الآن يلفظ أنفاسه الأخيرة مودعا سنين عزته وشموخه وهيبته في ظل حكم المسلمين، هؤلاء المسلمين الذين كانوا سببا في سعادته وهيبته وشموخه وشدة جماله، هم نفسهم السبب في حزنه وانكماشه وذله الذي لم يسبق له أن ذاقه، لقد تغير المسلمون وأصبحوا في حاجة إلا أن يسلموا من جديد، انشغلوا باللهو والطرب، وغاصوا في بحار النعيم والترف، ابتعدوا عن كتاب ربهم وتخلفوا عن سنة الجهاد، فكانت عاقبتهم أن ابتلاهم الله بفقدان هذه الجوهرة الثمينة.

ونحن الآن يا أبنائي نشهد سقوط أندلس اخرى، بنفس المكر والخداع والخيانة، وما فلسطين عن الأندلس ببعيد، وما هي إلا أختها وشبيهتها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وما نحن إلا صورة مستقبلية عن ما كان عليه المسلمون في بلاد الأندلس وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.


بقلمي.

زكرياء الحداد


إرسال تعليق

0 تعليقات